سماء القط
مترجمة وباحثة مهتمة بالشؤون الإفريقية
الناشر: مركز خدمات الاستخبارات الجيوسياسية (GIS)، وهو مركز يقع مقره بإمارة ليختنشتاين بوسط أوروبا، تم تأسيسه في عام 2011م، على يد الأمير مايكل، ويتركز عمل المركز في إجراء دراسات متعلقة بالتوقعات الجيوسياسية الدقيقة والواقعية المبنية على السيناريوهات.
المؤلف: الدكتور إيان أوكسنيفاد، وهو أحد علماء السياسة وخبير اقتصادي، ومتخصص في الاستخبارات والحروب الاقتصادية. عمل مديرًا للمخاطر الجيوسياسية في شركة إنفورتال العالمية بكاليفورنيا، كما عمل زميلًا باحثًا في الرابطة الوطنية للعلماء (NAS) بالولايات المتحدة الأمريكية.
الموضوع المترجم: يدور حول التنافس المشتعل بين الهند والصين على تشكيل المستقبل الاقتصادي لقارة إفريقيا، ومحاولة استقطاب كل طرف لدول القارة؛ لضمان مصالحه بها. وتتمثل أهمية هذا الموضوع في أنه يأتي متواكبًا مع الزيارة التي قام بها رئيس وزراء الهند “ناريندرا مودي” إلى دولتي غانا وناميبيا مؤخرًا لتعزيز العلاقات الهندية الإفريقية.
الأفكار الرئيسية للموضوع:
– يتناقض نفوذ الصين القائم على البنية الأساسية والديون، مع استثمارات الهند الموجَّهة نحو السوق والمركزة على الشراكة مع دول شرق إفريقيا.
– الاستثمارات الصينية والهندية في شرق إفريقيا تتبع نماذج متنافسة.
– تتعاون الشركات الهندية مع الشركات الإفريقية باستخدام إستراتيجية تُركّز على السوق.
– إن تركيز الهند على القطاعات طويلة الأجل يمنحها أفضلية على الصين.
مقدمة:
يشهد العالم صراعًا متناميًا على النفوذ في أوراسيا؛ حيث تُحدّد مبادرة الحزام والطريق الصينية رؤية بكين لنظام اقتصادي جديد، يربط الدول بالصين من خلال استثمارات في البنية التحتية وإقراض عبر مؤسسات اقتصادية حديثة نسبيًّا تتحدَّى الإطار الغربي.
في المقابل، تقدّم الهند رؤية منافسة من خلال الممر الاقتصادي “الهند-الشرق الأوسط-أوروبا” (IMEC)، وفي شرق إفريقيا يتجلَّى هذا التنافس الجيوسياسي؛ حيث تتنافس نيودلهي وبكين على النفوذ في العالم النامي؛ حيث تُطوّر كلّ منهما أنظمتها الاقتصادية من خلال مبادرة الحزام والطريق، والممر الاقتصادي “الهند-الشرق الأوسط-أوروبا” على التوالي.
وقد انتعشت العلاقات الاقتصادية الهندية مع شرق إفريقيا في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مما عزّز من فرص الاستثمار الأجنبي المباشر، القائم على نَهْج الليبرالية القائمة على اقتصاد السوق، وعلى عكس النهج الصيني عزَّز النهج الهندي الشراكات المحلية، مع إعطاء الأولوية للوصول إلى الأسواق والخبرة التقنية، ورغم أن استثمارات بكين كان لها تأثير أكبر على المدى القصير في شرق إفريقيا، إلا أن تأثير نيودلهي قد يكون أكثر ديمومة، وتنبع هذه الاستدامة من عوامل قطاعية وتغيرات في ثقافة الأعمال.
أولًا: النماذج الاقتصادية المتنافسة في شرق إفريقيا:
يختلف النهج الصيني والهندي تجاه الاستثمار في شرق إفريقيا بشكل كبير من حيث الحجم والقطاع، مما يُؤثّر على جوانب مختلفة من اقتصاد المنطقة، فمثلًا موَّلت البنوك الصينية المملوكة للدولة بمبلغ يُقدَّر بـ75 مليار دولار أمريكي قروض البنية التحتية الإفريقية بين عامي 2000 و2021م، مع التركيز بشكل رئيسي على مشاريع الطاقة والنقل.
وفي عام 2023م وحده تلقَّت إفريقيا 21.7 مليار دولار أمريكي من الاستثمارات الصينية لتطوير الموانئ والسكك الحديدية، وقد عزَّز انخراط بكين في البنية التحتية الإفريقية مكانة المنطقة في سلاسل القيمة العالمية، ومع ذلك فإنه قد أدَّى إلى زيادة حادة في ديون الدول الإفريقية، مع غموض العقود، وضعف عوائد الاستثمار في كثير من الأحيان.
ويوضح الشكل التالي حقائق وأرقام تتعلق بمبادرة الحزام والطريق الصينية؛ حيث إنها منذ إطلاقها في عام 2013م حققت تقدمًا ملحوظًا في إفريقيا، وشاركت فيها 53 دولة إفريقية بدرجات متفاوتة
وفي شرق إفريقيا تحديدًا، خلقت الديون المستحقة للصين شعورًا بالتبعية، لا يبدو أنه سينحسر قريبًا، كما أنه بين عامي 2014 و2024م زادت خدمة الديون الإفريقية للصين بخمسة أضعاف لتصل إلى 6.8 مليار دولار لإثيوبيا، و6.7 مليار دولار لكينيا، و6.1 مليار دولار لزامبيا.
ففي كينيا التي تُعدّ أكبر اقتصاد في شرق إفريقيا بلغت خدمة الديون في عام 2023م ما نسبته 59% من عائدات الضرائب، ويُعيق هذا العبء المالي عمليات التنمية، وغالبًا ما يُشار إليه باسم فخ الديون.
كما تمتلك الصين ما يقارب 64% من الدين الخارجي لكينيا، ويعود هذا الالتزام جزئيًّا إلى مشاريع مثل خط السكة الحديد القياسي، الذي بنته شركة الطرق والجسور الصينية بتمويل من الحكومة الصينية، والذي كان من المفترض أن يربط هذا المشروع نيروبي بميناء مومباسا وأوغندا في المناطق الداخلية من إفريقيا؛ إلا أن الصين أوقفته فجأة في عام 2019م، بسبب تحديات لوجستية وقانونية ناجمة عن شروط المشروع “المبهمة” في العقود التجارية، وبسبب عدم اكتماله يعمل خط السكة الحديد الآن بخسارة.
هذا، وتسلط الفضائح المتعلقة بمشروع السكة الحديدية الضوء على جوانب أخرى من إستراتيجية بكين الاستثمارية في شرق إفريقيا، بما في ذلك التوترات المتعلقة بالعمال المهاجرين الصينيين والفساد، كما تضمَّنت شكاوى العمال الكينيين من مديريهم الصينيين اتهامات بالعنصرية ومزاعم بقلة أو انعدام التدريب ونقل المهارات، وأصبح مشروع السكة الحديدية محور توتر سياسي، يعكس الجدل الدائر حول دور الصين الأوسع في كينيا، ولا تزال قضايا مماثلة قائمة في إثيوبيا وأوغندا.
وفي ذات السياق، تعكس شكاوى العمال الكينيين من نقص نقل المهارات من نظرائهم الصينيين اتجاهًا أوسع نطاقا في الاستثمار الصيني في البنية التحتية، فعندما يقدم التدريب غالبًا ما يكون أساسيًّا وقصير الأجل، وهذا يؤدي إلى ارتفاعات مؤقتة في التوظيف، ولكن مع ضعف التقدم الوظيفي على المدى الطويل، واعتماد متزايد على الصين والعمال الصينيين، وهو ما يتماشى مع المصالح الإستراتيجية لبكين، ولكنه لا يتماشى مع مصالح الدول المقترضة.
ورغم أن استثمارات بكين كان لها تأثير أكبر على المدى القصير في شرق إفريقيا، فإن تأثير نيودلهي قد يكون أكثر ديمومة؛ حيث يختلف نَهْج الهند اختلافًا ملحوظًا، فنجد مثلًا أنه في عام ٢٠١٨م وخلال حديثه في أوغندا؛ حدَّد رئيس الوزراء الهندي “ناريندرا مودي” عشرة مبادئ تُعرَف بـ”مبادئ كمبالا”؛ والتي تُعبِّر عن أهداف نيودلهي في الاستثمار الإفريقي، وشملت هذه المبادئ وعدًا بفتح الأسواق، والاستثمار في التعليم، والبنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات، والتحسينات الزراعية، والرعاية الصحية، وتتمتع هذه القطاعات بقدرة استيعابية للعمالة على المدى الطويل، وتتوافق مع رؤية الهند للسياسة الخارجية طويلة المدى لعلاقاتها مع إفريقيا، وقد تركزت الاستثمارات الهندية في القارة بشكل كبير في شرق إفريقيا، مع تركيز كبير على الطاقة والتصنيع.
وبعد أن بدأت الهند بزيادة استثماراتها الخارجية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أصبحت موريشيوس الوجهة الأولى للتمويل حتى عام ٢٠١٦م. وفي الاقتصاد الحقيقي، استحوذت الصناعات التحويلية في كينيا وزامبيا وإثيوبيا على نصيب الأسد من استثمارات الهند الإفريقية، وشهد منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تسعة لقاءات هندية إفريقية لتوسيع العلاقات الثنائية مع القطاع الخاص وتعزيز الحضور الاقتصادي للهند، وركز اللقاء الذي عقد العام الماضي في نيودلهي على تأمين المعادن الأساسية، والأمن الغذائي، والتعاون في تقنيات الفضاء وإطلاق الأقمار الصناعية، كما توقع وزير التجارة سونيل بارثوال أن يصل حجم التجارة الثنائية بين الهند وإفريقيا إلى ٢٠٠ مليار دولار بحلول عام ٢٠٣٠م مدفوعا بقطاعات الأدوية والسيارات والنقل والزراعة.
ثانيًا: إستراتيجية الأعمال الموجّهة نحو السوق في الهند:
على الرغم من انخفاض استثمارات الهند في إفريقيا مقارنةً بالصين، ويعود ذلك أساسًا إلى حجم المشاريع المعنية، إلا أن مكانتها في المنطقة آخِذَة في النمو؛ حيث زادت استثماراتها في القارة بنحو 18% سنويًّا منذ عام 2003م، وفي عام 2023م تجاوزت الهند الصين كأكبر شريك تجاري آسيوي لكينيا، بينما تباطأت استثمارات بكين في المنطقة.
هذا وبخلاف تركيز الصين على مشاريع البنية التحتية الممولة من الدولة والمثقلة بالديون، تُركّز استثمارات الهند في شرق إفريقيا على الرعاية الصحية، والبنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات، والتصنيع، وهذه القطاعات أكثر ملاءمة لنقل المهارات ونموّ الطبقة المتوسطة، وتُمثّل شراكات طويلة الأمد مقارنةً بمشاريع البنية التحتية واسعة النطاق في بكين.
كما أنه طوال منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، شكَّل ضعف البنية التحتية، والمشاكل اللوجستية، والفساد أكبر العقبات التي أعاقت عمل الشركات الهندية في إفريقيا، وشملت هذه التحديات أيضًا صعوبات في تأمين مشترين أفارقة لخدمات التكنولوجيا الهندية.
وللتغلُّب على هذه العقبات، استحوذت الشركات الهندية على شركات محلية كشركات تابعة أو شركاء، واستخدمت موردين محليين، وركَّزت على البيع للمشترين الأفارقة، وفي مجال المعادن الحيوية، تضمَّنت إحدى توصيات ملتقى الأعمال العام الماضي قيام الحكومة الهندية برعاية فكرة التنمية المشتركة في استخراج المعادن في إفريقيا؛ لربط التعدين الإفريقي بالسوق الهندية.
ويوضح الشكل التالي حقائق وأرقام تتعلق بالاستثمارات القطاعية في إفريقيا خلال الفترة من أبريل 2010م إلى مارس 2023م؛ حيث إنه على مرّ هذه السنين شهدت استثمارات الهند في إفريقيا نموًّا ملحوظًا، وتشمل هذه الاستثمارات مجموعة واسعة من القطاعات، بما فيها التصنيع والاتصالات والبنية التحتية والزراعة:
وفي جميع أنحاء إفريقيا، أدَّى هذا النهج الهندي إلى شراكات إستراتيجية، مثل تلك التي جمعت شركة ريلاينس إندستريز، ومقرها مومباي، وشركة نيكست-جين إنفراكو الغانية، ويكتسب هذا التعاون أهمية جيوسياسية؛ إذ وافقت الحكومة الغانية على توسيع الهند لنطاق وصول الجيل الخامس في صفقة استثنت الشركات الصينية، وتُعدّ شركة الاتصالات الهندية بهارتي إيرتيل الآن من بين أكبر مزوّدي خدمات الهاتف المحمول في القارة.
كما أنه في شرق إفريقيا تحديدًا، عززت مجموعة أداني الهندية تحقيق أهداف مشروع الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا IMEC))؛ من خلال شراكتها مع أبو ظبي لتأمين محطات موانئ في دار السلام ضمن مبادرة بوابة شرق إفريقيا، ورغم أن اقتصاد المنطقة كان خاضعًا لسيطرة الدولة تاريخيًّا؛ إلا أن حصول مجموعة أداني على امتياز لمدة 30 عامًا للمساعدة في إدارة وصول موانئ تنزانيا إلى المحيط الهندي يشير إلى تغيير في توجهات السوق في المنطقة.
وقد دخلت الشركات الهندية بقوة إلى إفريقيا لتصنيع المركبات والمعدات الزراعية والأدوية؛ حيث بدأت شركة تاتا موتورز، إحدى أكبر شركات تصنيع السيارات في الهند، عملياتها في القارة بعد دخولها إلى السودان عام ١٩٦٤م، وتوسعت منذ ذلك الحين لتشمل بعضًا من أكبر أسواقها، بما في ذلك زامبيا وتنزانيا وأوغندا وكينيا. وفي تنزانيا كذلك تعمل شركتا تاتا موتورز وماهيندرا آند ماهيندرا على توسيع حضورهما لبناء مصانع تجميع جديدة.
وفضلًا عن ذلك تُعدّ الأدوية الهندية ذات قيمة خاصة للمستهلكين الأفارقة؛ نظرًا لانخفاض تكاليف الأدوية بصورة عامة. وللتغلب على تحديات الاستثمار، استفادت شركات الأدوية الهندية بفعالية من شبكات الجالية الهندية في إفريقيا، وهي من مخلفات الحقبة الاستعمارية البريطانية، إلا أن عدم الاستقرار السياسي في بعض الدول، ونقص مرافق اختبار الأدوية المحلية في القارة أبطأ توسع الهند هناك.
كما يتمتع قطاع الرعاية الصحية في إفريقيا بعلاقات متنامية مع الهند؛ حيث يتدرب الأطباء الأفارقة في الهند، بينما تتوسع شركات الأدوية الهندية جنوب الصحراء الكبرى، وعلى سبيل المثال استفادت شركة كاديلا للأدوية من شراكتها مع شركة ألميتا إمبكس الإثيوبية لجلب التصنيع إلى منطقة القرن الإفريقي عام ٢٠٠٧م؛ حيث سافر وفد من هيئة الغذاء والدواء الإثيوبية إلى منشآت كاديلا في الهند عام ٢٠٢٢م لدراسة مختبرات التطوير التابعة للشركة، وتسهم هذه العلاقات الثنائية بين الشركات الهندية وشركائها الأفارقة في تغيير معايير الأعمال في المنطقة نحو بيئة أكثر ملاءمة للأسواق.
وفي حين تسعى كلّ من بكين ونيودلهي إلى الوصول إلى الموارد الطبيعية والطاقة في إفريقيا؛ فإن أنماط الاستثمار التجاري السائدة بين هاتين القوتين الآسيويتين المتنافستين تشير إلى نتيجتين مختلفتين تمامًا في المستقبل، ويمكن للشركات الصينية والهندية في شرق إفريقيا أن تُساهم في تشكيل المشهد الاقتصادي للمنطقة من خلال توجهاتها المتنافسة نحو الدولة والسوق.
كما تتجذر المصالح الاقتصادية الهندية في إفريقيا بعمق في الكثافة السكانية الكبيرة للقارة والطلب المتزايد على المنتجات الهندية، مثل الاتصالات والأدوية، ولا يقتصر هذا الانخراط الاقتصادي على امتداد منطقة واسعة فحسب، بل يشمل أيضًا قطاعات حيوية دائمة وأكثر عزلة عن الطلب على الموارد الطبيعية أو بناء البنية التحتية، ومع مرور الوقت من المرجّح أن تمنح هذه الإستراتيجية نيودلهي دورًا قويًّا في تشكيل تطورات الأعمال الإفريقية، ويُعدّ الموقع الجغرافي عاملًا ثانيًا في صالحها، فقرب شرق إفريقيا من الهند يجعل من مواجهة الصين أينما أمكن على طول المحيط الهندي ضرورة أمنية وطنية لنيودلهي.
ثالثًا: التأثيرات الهندية على نموذج شرق إفريقيا المرتكز على السوق:
يمكن للشركات الصينية والهندية في شرق إفريقيا أن تُشكّل المشهد الاقتصادي للمنطقة من خلال توجهاتها المتنافسة نحو الدولة والسوق، ويجب أن توجّه الشراكات التجارية العابرة للحدود السياسات في نهاية المطاف، بما يُمكّن هذه القوى المتنافسة من تحويل المشهد الاقتصادي للقارة، وبالنظر إلى الظروف الحالية لنهج الصين التنازلي في البنية التحتية تجاه إفريقيا، والتشكك المحلي، ومدى الروابط القائمة بين قطاعات شرق إفريقيا ونظيراتها الصينية والهندية، يقدم نموذج نيودلهي إستراتيجية أكثر استدامة.
فمنذ تسعينيات القرن الماضي، دفعت مجموعة من العوامل شرق إفريقيا نحو مسار تدريجي للتحرر الاقتصادي، وقد تبنَّت كينيا التي يقال: إنها الاقتصاد الأكثر توجهًا نحو السوق في المنطقة، مزيدًا من التحرير في قطاعي الاتصالات والزراعة خلال التسعينيات، مما أدَّى إلى جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية، ومع ذلك لا يزال التحرير الاقتصادي في إفريقيا متعثرًا وخافتًا في دول أخرى مثل إثيوبيا وتنزانيا؛ حيث أعاق الصراع وبطء الإصلاحات تطوير توجُّه كامل نحو السوق والحدّ من الفقر.
في حين أن الوجود الصيني في إفريقيا يحمل معه ديناميكيات متعلقة بسيطرة الدولة، فمن الأهمية بمكان ملاحظة أن هذا النوع من الحكم ليس إفريقيًّا بطبيعته، وأن نفوذ بكين غير مضمون رغم وجودها الكبير، ففي الواقع لطالما أثارت المشاريع الصينية مقاومة محلية ومشاعر معادية للصين؛ حيث يستغل القادة الأفارقة هذا الخطاب لكسب الدعم السياسي.
ومن الناحية النقدية، يُعدّ استخدام العملة الصينية في إفريقيا محدودًا، ولكنه في تزايد، فالديون المستحقة على الدول الإفريقية للصين تجعل العملة الصينية أكثر جاذبية للسداد، وإذا ما استخدمت شرق إفريقيا هذه العملة على نطاق واسع، فسيؤدي ذلك إلى تعزيز النفوذ البيروقراطي الصيني وما يصاحبه من استبداد.
وتشير تحليلات القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا إلى أن حملات النفوذ السياسي الصينية في المنطقة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمشاريع مبادرة الحزام والطريق، ومع ذلك فإن هذه الجهود تفشل في تحسين صورة بكين، ولم يترجم التركيز على التأثير على النخب الإفريقية إلى رسائل فعَّالة للجماهير، أما تركيز الهند على تدريب العمال والشراكات الخاصة، فيُعزّز الروابط الاقتصادية الإفريقية، بخلاف النهج الشعبي الذي تنتهجه الصين، والذي يتميز بالتركيز على نقل المهارات والشراكات الخاصة، والذي يمتدّ إلى قطاعات الاقتصاد الإفريقي وبين السكان بطرق لا تدعم إستراتيجية الصين.
رابعًا: السيناريوهات المستقبلية:
1-السيناريو الأرجح: تحوُّل دول شرق إفريقيا إلى الهند نحو اقتصاد قائم على السوق:
توجد ثلاثة عوامل رئيسية تدفع اقتصاد شرق إفريقيا إلى التحوُّل تدريجيًّا نحو الهند، واتباع نهج طويل الأمد يركز على اقتصاد السوق؛ حيث يوفر القرب الجغرافي للهند عبر المحيط الهندي لنيودلهي سابقة تاريخية في بناء علاقات متينة من خلال شراكات القطاع الخاص في مختلف القطاعات، ويركّز نهجها على قطاعات واسعة بدلًا من المشاريع الفردية، لا سيما في الصناعات التي تُسهم في نقل المهارات.
وينشئ هذا النهج روابط متعددة الأوجه قائمة على المصالح الاقتصادية والعلاقات بين الشعوب، مدعومة بقوى السوق المستقلة عن الديناميكيات السياسية المحددة، وتُعدّ روابط الهند مع شرق إفريقيا في نهاية المطاف أكثر عضوية من روابط الصين؛ وذلك نظرًا لارتباطهما بقوى السوق والروابط الاجتماعية والاقتصادية المنفصلة عن توجيهات دولة حزبية متجانسة.
وقد تسمح دبلوماسية الديون الصينية لها بممارسة نفوذ على النُّخَب، وخاصةً فيما يتعلق باستثمارات البنية التحتية الخاصة بمشاريع محددة، إلا أن نموذجها في إدارة الدولة الاقتصادية أقل ديمومة وأقل اندماجًا في ثقافة الأعمال الإفريقية من النهج الهندي، كما أن نهج الصين القائم على الدولة تجاه الاستثمار الأجنبي في إفريقيا ليس منفصلًا عن متطلبات السوق فحسب، بل يَحُدّ أيضًا من قدرتها على بناء علاقات مع الصناعات الرئيسية بنفس القدر الذي تفعله الهند.
وفي ذات السياق، فإن مشاريع البنية التحتية التي تُنفّذها بكين قد تُولّد مشاعر معادية للصين وعداء بين السكان تجاه الحكومات الإفريقية التي تسعى الصين للتأثير عليها، ويؤدي نهجها تجاه شرق إفريقيا في نهاية المطاف إلى عرقلة حماية مصالحها.
ورغم أن عملية التحولات الاقتصادية تتسم بالبطء، لا سيما في المناطق غير المستقرة مثل شرق إفريقيا، إلا أنه نظرًا لوجود الهند في قطاعات مرنة ومستقلة عن الدولة، فسيكون تأثيرها في إفريقيا أطول وأكثر استدامة مقارنة بمنافستها الآسيوية، ونظرًا لهذا الإطار الزمني الأطول، فإن النتيجة الأكثر ترجيحًا للتنافس الصيني الهندي ستؤدي إلى استمرار السعي لتعزيز موقف داعم للسوق في المنطقة.
2-السيناريو الأقل احتمالًا: الاستثمار الصيني يؤدي إلى تجدُّد النزعة الشمولية:
إن جهود الصين لإعادة تشكيل مستقبل شرق إفريقيا الاقتصادي بما يتماشى مع مصالحها الخاصة تَصُبّ في مصلحتها لعدة عوامل؛ أهمها أن هيمنة الدولة راسخة بفضل عزلتها عن قوى السوق، وقد استغلت بكين شركاتها المملوكة للدولة بفعالية لتطوير البنية التحتية في شرق إفريقيا بما يخدم مصالحها، وقد نجحت في توظيف مشاريعها في إفريقيا للدفع بمبادرة الحزام والطريق، واكتسبت نفوذًا في شرق إفريقيا من خلال كونها دائنًا أجنبيًّا رائدًا للمنطقة.
ولا يقتصر تأثير هذا الرفع المالي على الضغط على صانعي القرار الأفارقة فحسب، بل يحفزهم أيضًا على اعتماد العملة الصينية، والتي إذا اكتسبت مكانة بارزة في شرق إفريقيا، ستنتقل السياسة الاقتصادية لبكين بفعالية أكبر إلى الأغلبية العالمية، بما يعود بالنفع على الصين، كما أن تدويل العملة الصينية سيُعزّز بالمثل دور الدولة كنموذج اقتصادي.