الأفكار العامة:
– يُعدّ قرار واشنطن بإنهاء مهام “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية” في إفريقيا تحولًا غير مسبوق، يأتي في لحظة حرجة تشهد فيها القارة أزمات متشابكة ونموذجًا تنمويًّا مأزومًا.
– هذا الانسحاب قد يُفْضِي إلى تداعيات إنسانية خطيرة، قد تطال أكثر من 14 مليون شخص بحلول 2030م، إضافة إلى نَسْف مكاسب تنموية أُحْرِزَت مؤخرًا.
– يرى المراقبون في هذا المنعطف فرصة نادرة لإفريقيا لتسريع استقلالها الاقتصادي وتعزيز قدراتها الذاتية.
– هناك تساؤلات عميقة حول دور نظام المساعدات الدولية، الذي يُنظَر إليه كأداة نفوذ جيوسياسي كرّست التبعية أكثر مما ساهمت في التنمية الفعلية.
– تظهر محدودية أثر المساعدات الأمريكية من خلال حجمها النسبي؛ إذ لم تتجاوز المساعدة الإنمائية الرسمية لإفريقيا عام 2024م نسبة 0.22% من الدخل القومي الإجمالي، أي ما يعادل 63.3 مليار دولار فقط.
– عودة دونالد ترامب إلى الواجهة السياسية تُذكِّر القادة الأفارقة بضرورة تولّي زمام المبادرة في محاربة الفقر وتحقيق تنمية مستدامة نابعة من الداخل.
– الرئيس الرواندي بول كاغامي قال: “لا نريد مساعدات تُبقي الحاجة قائمة، بل دعمًا يُمكِّن الناس من الاعتماد على أنفسهم”.
-ضرورة تسديد الشركات متعددة الجنسيات ضرائبها للدول الإفريقية التي تستثمر فيها مواردها الطبيعية؛ ضمانًا للسيادة الاقتصادية والعدالة الجبائية.
بقلم: كليمانس كلوزيل
ترجمة: سيدي.م. ويدراوغو
في الأول من يوليو الماضي، أنهت واشنطن سياسة المساعدات التي انطلقت عام 1961م، تاركةً الدول الإفريقية وحدها في مواجهة أزمات غير مسبوقة ونموذج تنموي بحاجة إلى إعادة اختراع.
وكانت إدارة ترامب قد أعلنت في فبراير 2025م عن تفكيك “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية” بشكل نهائي، اعتبارًا من الأول من يوليو. وبعد أكثر من ستين عامًا من الالتزام العالمي بدعم التعليم، والصحة، والمساعدات الإنسانية، تم إلغاء نحو 83٪ من برامج الوكالة التي أُسست عام 1961م.
وقد تأثرت إفريقيا جنوب الصحراء بشكل خاص بهذا القرار؛ حيث كانت تستفيد من 40٪ من ميزانية الوكالة، بما يفوق 15 مليار دولار، وفق وزارة المساعدة الخارجية الأمريكية.
وتُحذّر التقديرات من أن هذا التوقف المفاجئ قد يُسفر عن وفاة أكثر من 14 مليون شخص حول العالم بحلول عام 2030، فضلًا عن ضياع العديد من المكاسب التنموية التي تحقَّقت في السنوات الأخيرة.
وفي ظل أزمة الديون وتراجع الدعم الغربي للمساعدات الدولية، أعاد إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إحياء المطالب القديمة بإصلاح نظام المساعدة الإنمائية الرسمية، وتوسيع الإصلاح ليشمل الحوكمة العالمية بشكل أشمل.
في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، تحظى هذه الانتقادات بصدًى واسع خاصة بين الشباب الذين يطالبون بمزيد من الاستقلالية، ويُعزّزها قادة أفارقة يؤمنون بسيادة الدول. ويرى العديد من المراقبين في هذا الاضطراب فرصة لتسريع التنمية في القارة، وتقليل اعتمادها على الخارج.
النموذج الحالي على المحكّ:
لم تُحقّق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إلا إنجازات محدودة منذ نهاية الحرب الباردة. نادرًا ما تم بلوغ أهداف التنمية، وتفاقم عدم الاستقرار، وازدادت المشاعر المعادية للولايات المتحدة، كما انتقد وزير الخارجية ماركو روبيو في مذكرة صدرت في الأول من يوليو الماضي. في ذات اليوم، اضطرت الولايات المتحدة إلى إنهاء عمل الوكالة بعد 64 عامًا من إنشائها.
هذه الاتهامات بالتبذير والاحتيال، رغم التقدم المسجل، تتلاقى مع انتقادات حادة موجهة للوكالة في إفريقيا (APDP). فقد قال الصحفي الكيني باتريك غاثارا لقناة الجزيرة: “نظام المساعدات الدولية أداة للهيمنة الجيوسياسية، ساهم في إدامة التفاوت بدلًا من معالجته”.
لهذا، تظل فعالية الوكالة محل جدل؛ إذ لم تتمكن طوال عمرها من تحقيق تغييرات هيكلية حقيقية تعالج أوجه القصور العميقة في اقتصادات القارة وتسهم في تنميتها المستدامة.
كما ينتقد معارضو المساعدات الإنمائية الرسمية العديد من الآثار السلبية والفجوات التي تسببها، منها استنزاف الموارد، وتدمير القِيَم عبر فرض معايير غربية، وارتفاع معدلات التضخم، وصعوبة تتبُّع الأموال، وغياب الحلول المحلية، إلى جانب فساد النخبة الحاكمة. وأشد هذه الانتقادات يتركّز على التدخل الأجنبي الذي استبدل بالدولة مهامها السيادية، مما أدَّى إلى إضعاف سيادة الدول وفصل رؤسائها عن شعوبهم.
هذا النمط تسبَّب في اعتماد مفرط على المانحين، مما يُعزّز تصوُّر بعض الأفارقة بأن المساعدات تمثل “حقنة إدمان”، أو نظامًا يُولّد التبعية، كما توضح إميلي لافيتو، خبيرة الاقتصاد ومتخصصة في شؤون إفريقيا جنوب الصحراء.
ويرى الحاج عبد الله سيك، اقتصادي في جبهة الثورة المناهضة للإمبريالية (FRAPP)، أن هذه المساعدات هي أداة قوة ناعمة للتحكم والتأثير على القادة والجماهير الإفريقية. وهذا التوازن لا يخدم مصالح الدول الإفريقية بل يعزز حالة من عدم الاستقرار. ومع ذلك، يشير إلى أن “الجهات المانحة تسعى إلى تنويع آليات تقديم المساعدات لتفادي التدخل المباشر، مع الحفاظ على تبعية الدول لهذا التمويل وضرب مصداقية الدولة”.
في المقابل، يقلل العديد من الاقتصاديين، بمن فيهم الحائزة على جائزة نوبل أستير دوفلوت، من الأهمية الحقيقية للمساعدات الأمريكية للدول الإفريقية، مشيرين إلى أن نسبة قليلة فقط من هذه الدول تعتمد بشكل كبير على دعم الميزانية الأمريكية ضمن موازناتها الوطنية. وفي عام 2024م، بلغت المساعدة الإنمائية الرسمية الأمريكية لإفريقيا 0.22% فقط من إجمالي الدخل القومي (NNB)، ما يعادل حوالي 63.3 مليار دولار.
فرصة للصحوة:
يرى العديد من المحللين والمراقبين في تعليق إلغاء المساعدات الأمريكية فرصة لإنهاء اعتماد بعض الدول الإفريقية على التمويل الأجنبي الغربي، وإعادة النظر في نماذجها الاقتصادية نحو مزيد من الاستقلالية. وفقًا لتصريحات عالِم الاجتماع والناشط الإفريقي “موسى سي” في وسائل الإعلام البوركينية «بوركينا فاسو»، فإن «عودة دونالد ترامب تُذكّر قادتنا الأفارقة بأن الأفارقة يجب أن يكونوا في الخطوط الأمامية لمكافحة الفقر وتحسين رفاهيتنا الجماعية والمستدامة».
هذه الدعوة لإعادة تشكيل نظام الإدارة الدولية والمساعدة الإنمائية الرسمية ليست جديدة، لكنّ الانفصال الأمريكي أعاد إحياء النقاش. وكان ذلك محور المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية في إشبيلية (30 يونيو – 3 يوليو).
في هذا الإطار، دعا الرئيس السنغالي “باشيرو ديوماي فاي” إلى «إصلاح النظام المالي العالمي لخدمة الدول الضعيفة»، وتصحيح «الاختلالات المنهجية»، مؤكدًا على ضرورة حكم عالمي أكثر عدلًا بتمويل يتوافق مع احتياجات البلدان الضعيفة، ومؤيدًا «تعددية الأطراف الشاملة كشرط للسلام والتنمية».
تعكس هذه المطالب تطلعات الشباب الإفريقي وخطابات السيادة التي يرفعها قادة الدول الجدد الذين ينادون بـ«القطيعة» مع الماضي. قال رئيس وزراء السنغال عثمان سونكو: «لن نتطور أبدًا بالاعتماد على مساعدات خارجية، بل يجب أن نعتمد على تطوير أنفسنا». هذه القضية ذات حساسية سياسية عالية، مرتبطة بمواقف سيادية قوية في الولايات المتحدة وأوروبا وإفريقيا على حد سواء.
تشير إميلي لافيتو إلى وجود تفكير متزايد في تعاون أكثر نفعًا ومتوازنًا بين الأطراف. كما تعكس هذه الرغبة لدى الرؤساء والناشطين في تغيير الصورة النمطية التي تصوّر إفريقيا وكأنها تتوسل إلى الغرب طلبًا للإحسان.
في هذا السياق، قال الرئيس الرواندي “بول كاغامي” لوسائل الإعلام «جون أفريك» «لا نريد أن تستمر المساعدات في إدامة الحاجة إليها، بل نريد مساعدة تُمكِّن الناس من الوقوف على أقدامهم بأنفسهم».
ترى إميلي لافيتو أن التشكيك القائم يحمل فرصًا إيجابية، لكنها تُعبِّر عن قلقها إزاء إعادة تعريف مبدأ التضامن الدولي، وتحويله من رؤية إنسانية إلى مفهوم تجاري ونفعي. تشهد إفريقيا انخفاضًا ملحوظًا في التمويل، ففي حين كان هدف الأمم المتحدة في السبعينيات أن تخصص الدول الغنية 0.7% من دخلها القومي للمساعدة الإنمائية الرسمية، لم يتجاوز هذا المعدل 0.37% في عام 2022م.
تُقدّم المساعدات بشكل متزايد عبر قروض ميسرة بدلًا من المِنَح، ما يضع الدول ذات الأوضاع الاقتصادية الهشّة تحت ضغط إضافي؛ إذ تضطر إلى الاقتراض بأسعار مرتفعة لتمويل احتياجاتها، ما يزيد من أزمتها المالية ويُقيِّد قدرتها على النمو.
ينفق أكثر من نصف إيرادات العديد من البلدان الإفريقية على خدمة الديون، مما يُعيق تمويل برامج تلبية الاحتياجات الأساسية، بحسب الحاج عبد الله سيك. وتضمّ المساعدات عنصر ديون بمعدلات تفضيلية، ما يُكرّس الحلقة المفرغة للديون. ووفقًا لبيانات الأمم المتحدة، تضاعف الدين الخارجي لأقل البلدان نموًّا ثلاثة أضعاف خلال الـ15 عامًا الماضية.
هذا التحول في نماذج المساعدات يعكس تراجع التعددية التي بدأتها إدارة ترامب عبر شعار “أمريكا أولًا”، مع إعطاء الأولوية لمنطق التجارة والمصالح الاقتصادية. في السنغال، رغم توقف مساعدات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، يواصل برنامج “حساب الطاقة” جهوده لتعميم الكهرباء، مع تركيز إعادة هيكلة المساعدات على القطاع الخاص لتعزيز الكفاءة.
ويؤكد الحاج عبد الله سيك أن مصالح الولايات المتحدة في المساعدات ليست إنسانية، بل تجارية تهدف لتحقيق أرباح للشعب الأمريكي، رغم استخدام كلمة “مساعدة”.
مسارات بديلة لإعادة بناء النموذج التنموي:
“لم نعد بحاجة إلى المساعدات، بل إلى شراكات متوازنة ومربحة للطرفين. نملك كل المقومات لتحقيق ذلك”، هذا ما أكده رجل الأعمال السنغالي ثيون نيانغ، الذي عاد من الولايات المتحدة إلى بلاده في 2019م. ورغم أن تعليق تمويل الوكالة الأمريكية للتنمية يشكّل تحديًا آنيًّا، إلا أنه يُعدّ أيضًا فرصة لإعادة النظر في الخيارات التنموية الوطنية، وتعزيز القدرات الذاتية، وتوسيع هامش الاستقلال عن التأثيرات الخارجية.
وفي هذا السياق، يدعو الخبير السنغالي في الصحة العامة موسى تيور، في وسائل الإعلام Seneweb، إلى إعادة توجيه السياسات والمشاريع نحو القطاعات ذات الأولوية، بالاعتماد على الإمكانات المحلية. ويرى أن إدارة الموارد الداخلية تُمثّل ركيزة حاسمة في تحقيق السيادة الاقتصادية، عبر إستراتيجيات محلية صلبة.
من جهته، يقترح الخبير الاقتصادي الحاج عبد الله سيك مسارين رئيسيين لتحقيق هذه الغاية؛ توسيع نماذج التعاون الاقتصادي، وتطوير صناديق التقاعد المحلية كأدوات تمويل ذاتية ومستدامة.
ولمواجهة فكّ الارتباط العالمي وتوقف المساعدات الأمريكية، تُطرح عدة بدائل محلية؛ من أبرزها: الإصلاحات الضريبية لتوسيع القاعدة الضريبية وتحقيق عدالة أكبر. تؤكد إميلي لافيتو أن السنغال، خلال الـ15 عامًا الأخيرة، حسّنت قدرتها على جمع الضرائب، مما عزَّز صمودها المالي، غير أن هذا المسار يظل معقدًا في دول تعاني من ضعف الادخار وغياب أدوات تمويل ذاتي. كما أن الطابع غير الرسمي لاقتصاداتها يشكل نزيفًا كبيرًا للإيرادات.
من الخيارات المطروحة أيضًا، الاستفادة من تحويلات المغتربين. ففي 2023م، بلغت تحويلاتهم إلى السنغال 2.8 مليار يورو، أي ضعف المساعدات الإنمائية الرسمية (1.4 مليار). وفي هذا السياق، تراهن الحكومة على “سندات الشتات” كأداة تمويلية تستهدف المواطنين بالخارج. لكن لافيتو تُحذّر من المبالغة في تحميل المواطن عبء التمويل، خاصةً أن صناديق المغتربين تميل لتمويل العقارات والقطاع الخاص فقط.
من جانبه، يدعو الحاج عبد الله سيك إلى “طفرة مواطنية” حقيقية ترتكز على خفض الإنفاق الحكومي وتفعيل دور القطاع الخاص كمحرك أساسي للتنمية.
في مؤتمر إشبيلية، صرّحت أميناتا توري، مبعوثة الرئيس السنغالي، بأن “الشركات متعددة الجنسيات مطالبة بدفع ضرائبها في البلدان الإفريقية التي تستغل مواردها الطبيعية”. وفي السياق ذاته، دعا الرئيس السنغالي إلى إبرام “اتفاقية للتعاون الضريبي الدولي” بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
ووفقًا لتقديرات الأونكتاد، تفقد إفريقيا أكثر من 89 مليار دولار سنويًّا نتيجة التدفقات المالية غير المشروعة.
وفي مواجهة هذا النزيف، شدد موسى تيور على أهمية تنويع الشراكات، مشجّعًا على تعزيز التعاون الإقليمي والجنوب-جنوب، وكذلك الانفتاح على جهات مانحة تحترم السيادة الوطنية، خاصة من دول مجموعة البريكس.
هذا التوجه يعكس تحوّلًا في موازين النفوذ الجيوسياسي، مع تزايد حضور الصين على الساحة الإفريقية على حساب الولايات المتحدة.
لكن هذه الشراكات البديلة لا تخلو من تحديات؛ إذ حذرت إميلي لافيتو من أن الصين لا تقدم مساعدات إنمائية رسمية، وتفرض فوائد مرتفعة وآجال سداد قصيرة، ما يزيد من أعباء الديون على الموازنات الإفريقية.
يؤكد الحاج عبد الله سيك أن المسارات البديلة المطروحة قد تُفضي في النهاية إلى استغناء كامل عن المساعدة الإنمائية الرسمية، مشيرًا إلى أن حجم هذه المساعدات يتجاوز بكثير مدخرات الدول، لكن الاستثمار في تحول طويل الأمد قد يجعل الاعتماد عليها غير ضروري. ويضيف بثقة “هذا هو الهدف”، مع تأكيده على أهمية السيادة النقدية.
وتُقدَّم المساعدة الإنمائية الرسمية بطريقتين: الأولى، دعم المشاريع عبر تمويل عام أو خاص لمبادرات محددة زمنيًا؛ والثانية، دعم الميزانيات من خلال منح أو قروض ميسرة تُدرج في الإيرادات العامة للدول وتمنحها حرية أكبر في التخصيص. غير أن كلتا الطريقتين تحملان تحديات مثل ارتفاع التكاليف وصعوبة تتبع الأموال، وفقًا لما أوضحته الخبيرة الاقتصادية إميلي لافيتو.