في نهاية عام 2024م، أصدر البنك الدولي تقييمًا شاملًا لفجوة التجارة الرقمية([1]) في منطقة القرن الإفريقي. يُقدِّم هذا التقييم تحليلًا لإطار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في دول مبادرة القرن الإفريقي، وهي المبادرة التي تم إطلاقها في عام 2019م بهدف تعزيز التكامل الاقتصادي الإقليمي بين خمس دول هم: جيبوتي، وإثيوبيا، وكينيا، والصومال، وجنوب السودان.
وتتضمن مبادرة القرن الإفريقي أربع ركائز أساسية هي: شبكات البنية التحتية الإقليمية، والتجارة والتكامل الاقتصادي، وبناء القدرة على الصمود، وتنمية رأس المال البشري. ويهدف هذا التقييم لفجوة التجارة الرقمية إلى سدّ الفجوة الرقمية التي تُعيق التجارة السلسة بين هذه الدول.
ولقد نُفّذ التقييم على مرحلتين، وتضمن تفاعلات مباشرة مع أصحاب المصلحة الرئيسيين، بمن فيهم ممثلو الحكومة والقطاع الخاص في الدول الخمس. وتم فهرسة البنية التحتية الرقمية المرتبطة بالتجارة بشكل منهجي، وحددت المجالات المحورية التي تفتقر إلى التقدم التكنولوجي.([2])
ولقد أصدر البنك الدولي بعض التوصيات وحثّ دول مبادرة القرن الإفريقي على العمل بها. وفي هذا السياق يُشار إلى أنه، ومنذ مبادرة عام ٢٠١٩م، قد تم بذل بعض الجهود، والتي تجلَّت عَبْر اجتماعات المنتدى الإفريقي واجتماع نيروبي، وهو ما يُوضِّح أيضًا أن التحديات ما زالت تعلو على الطموحات في مجال التجارة الرقمية، وهو ما يتم توضيحه فيما يلي:
توصيات البنك الدولي:
سلّط تقرير البنك الدولي الخاص بتقييم الفجوة الرقمية بمنطقة القرن الإفريقي، الضوء على فجوات حرجة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، مثل: غياب بوابات معلومات تجارية شاملة في جيبوتي وإثيوبيا وجنوب السودان، والحاجة إلى آليات متقدّمة لتبادل البيانات في جميع أنحاء القرن الإفريقي.
ولمعالجة هذه النواقص، يُوصِي البنك الدولي بسلسلة من التدخلات الرقمية. كما أوصى بالإنشاء الفوري لبوابات معلومات تجارية في جيبوتي وإثيوبيا وجنوب السودان لتسهيل الوصول إلى المعلومات الأساسية المتعلقة بالتجارة وتحسين الشفافية؛ حيث يمكن أن يُسهم تطوير نظام النافذة الوطنية الواحدة في جيبوتي والصومال وجنوب السودان في مركزية وتبسيط العمليات التجارية، مما يُقلِّل بشكل كبير من الوقت والتكلفة المرتبطين بالتجارة عبر الحدود. كما أنه من شأن تطبيق آليات متقدمة لتبادل البيانات على مستوى القرن الإفريقي أن يضمن تدفقًا فعَّالًا وآمنًا للبيانات عبر الحدود، مما يُعزّز كفاءة التجارة بشكل عام في المنطقة.
لم تكن التوصيات الواردة في التقرير مجرد حلول للأنظمة القائمة، بل تُعدّ جزءًا من رؤية إستراتيجية لتعزيز بيئة تجارية رقمية متماسكة في جميع أنحاء القرن الإفريقي. ومِن المتوقع أن تؤدي هذه التحسينات -في حال تنفيذها-، إلى تقليص الحواجز التجارية، وخَفْض تكاليف المعاملات، وتعزيز التكامل الاقتصادي، وهي أمور محورية لمرونة الاقتصاد والنمو في المنطقة.([3])
يختتم البنك الدولي التقييم بدعوة إلى اتخاذ إجراءات فورية ومستدامة. ويشدّد على ضرورة تضافر الجهود بين الحكومات الإقليمية والجهات المانحة الدولية وأصحاب المصلحة من القطاع الخاص لتنفيذ الحلول الرقمية المُوصَى بها.
مبادرة القرن الإفريقي عام 2019م:
أُطلقت مبادرة القرن الإفريقي في عام 2019م، وأصبحت منصةً رئيسيةً لتعزيز التعاون الإقليمي. وقد حشدت المبادرة، التي ترتكز على أربع ركائز أساسية؛ هي: البنية التحتية، والتكامل التجاري والاقتصادي، والقدرة على التكيُّف مع تغيُّر المناخ، ورأس المال البشري، أكثر من 12 مليار دولار أمريكي من شركاء التنمية منذ انطلاقها. ويعكس تركيزها المستمر على التكامل الرقمي فهمًا متطورًا بأن التنمية المستدامة في إفريقيا يجب أن تكون مدفوعةً بالبيانات، ومدعومة بالتكنولوجيا، ومتمحورةً حول الإنسان.
في 18 أكتوبر 2019م، وخلال الاجتماعات السنوية لمجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في واشنطن العاصمة، اجتمع وزراء المالية وممثلون آخرون من خمس دول في منطقة القرن الإفريقي -جيبوتي وإريتريا وإثيوبيا وكينيا والصومال-، في مبادرة القرن الإفريقي (مبادرة القرن الإفريقي HoAI)، وأكدوا التزامهم باتباع نَهْج منسَّق لاستكشاف أوجه التعاون والترابط الإقليمي ومعالجة التحديات الإقليمية. وفي وقت لاحق، انضم جنوب السودان والسودان أيضًا إلى منصة التكامل الإقليمي. وكانت الهيئة الحكومية الدولية للتنمية (IGAD) طرفًا أساسيًّا في مبادرة القرن الإفريقي منذ إنشائها، وتتمتع بصفة مراقب دائم. وقد دعم البنك الإفريقي للتنمية والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي هذه المبادرة منذ إنشائها. وانضمت ألمانيا والمملكة المتحدة والبنك العربي للتنمية الاقتصادية في إفريقيا (BADEA) إلى المبادرة لاحقًا.
ويهدف التعاون الإقليمي إلى تحسين الربط الإقليمي، وتحسين الوصول إلى الطاقة والتحول الأخضر، والخدمات الرقمية الموثوقة وبأسعار معقولة، وتيسير التجارة والتكامل الاقتصادي الهادف إلى الاستفادة من مشاركة القطاع الخاص، والمرونة واسعة النطاق التي تتراوح من الأمن الغذائي والأمن المائي إلى التكيُّف مع تغيُّر المناخ والتخفيف من آثاره، وتنمية رأس المال البشري، وهي كلها عوامل من شأنها أن تُسرِّع النمو الاقتصادي والحدّ من الفقر بشكل كبير. كما يمكن للنُّظُم الإقليمية التي تدعمها مبادرة القرن الإفريقي أن تُعزّز وفورات الحجم في دعم المنافع العامة الإقليمية ومكافحة “السلبيات” العامة الإقليمية.
ولهذه الغاية، تلتزم مبادرة القرن الإفريقي بالسعي إلى تحديد أولويات البرامج الإقليمية بشكل ديناميكي في (أ) ربط البنية التحتية، (ب) التكامل الاقتصادي، (ج) بناء المرونة، و(د) رأس المال البشري، وذلك لتكملة برامجها وأولوياتها الوطنية لتحقيق تكامل إقليمي أعمق في القرن الإفريقي.
تقدم مبادرة القرن الإفريقي نموذج عمل شاملاً للتكامل الإقليمي، يشمل حوار السياسات والاستثمارات والملكية السياسية. وتتوافق أولوياتها تمامًا مع إستراتيجية البنك الدولي للمساعدة في التكامل والتعاون الإقليمي في إفريقيا والأولويات الإستراتيجية للجهات المانحة الأخرى الداعمة للمبادرة.
مبادرة القرن الإفريقي هي تحالفٌ قائمٌ على الحكم الذاتي يضمّ أصحاب المصلحة الراغبين في التنمية الإقليمية في القرن الإفريقي. يرأسها وزراء مالية الدول الأعضاء بالتناوب كل عامين. وقد ترأس وزراء مالية جيبوتي وكينيا وإثيوبيا المبادرة سابقًا. ويرأسها حاليًّا وزير المالية الصومالي. تدعمها أمانة عامة صغيرة، ويخدمها صندوق استئماني مُتعدّد المانحين، بدعم من الاتحاد الأوروبي وألمانيا.([4])
بالنسبة لإفريقيا ككل، تُؤكّد مبادرة القرن الإفريقي على أن التعاون الإقليمي والابتكار الرقمي يجب أن يسيرا جنبًا إلى جنب. فالمخاطر كبيرة، ولكنّ الفرص كبيرة أيضًا. مع ترسيخ النُّظُم البيئية الرقمية، يجب تصميمها ليس فقط لتحقيق الكفاءة أو الربح، ولكن أيضًا لتحقيق الاستدامة والشمول والمرونة على المدى الطويل. وإن النجاح في اعتماد هذه التدابير لن يُبسِّط عمليات التجارة فحسب، بل سيُعزّز أيضًا الاستقرار الإقليمي والتنمية الاقتصادية.
منتدى التنمية الإفريقي والتحديات القائمة:
في الثاني من ديسمبر 2024م، صرَّح مسؤولون خلال منتدى التنمية الإفريقي في كيجالي، بأنه من خلال تبنّي التقنيات الناشئة وبناء بنية تحتية رقمية متينة، يُمكن للدول الإفريقية فتح آفاق جديدة للشركات، وتحسين الوصول إلى الأسواق العالمية، وزيادة كفاءة العمليات التجارية. وأكَّد المنتدى أن الرقمنة تنطوي على إمكانات هائلة لتحويل المشهد التجاري في إفريقيا من خلال تسهيل التجارة عبر الحدود وتعزيز الصادرات عبر القارة.
ووفقًا لمنظمة “العلامات التجارية الإفريقية “(TMA)، وهي منظمة تعمل على زيادة التجارة في إفريقيا، فإن التحدي الرئيسي الذي يواجه التجارة الرقمية عبر الحدود في إفريقيا يتمثل في عدم وجود لوائح موحدة بين البلدان. فلكل دولة قواعدها الخاصة التي تُنظِّم المعاملات الرقمية، وخصوصية البيانات، والتجارة الإلكترونية، مما يُشكِّل عوائق أمام التجارة.
ومن أهم مزايا التجارة الرقمية: قدرتها على تمكين الشركات الصغيرة، بما في ذلك رائدات الأعمال، وأصحاب الحيازات الصغيرة، والفئات المُهمَّشة، من خلال تذليل حواجز الدخول.
وفي هذا الإطار، صرَّح أنطوان سيبيرا، كبير مسؤولي الابتكار في هيئة مجتمع المعلومات الرواندية (RISA)، بأن تجزئة السياسات تُشكِّل عائقًا رئيسيًّا أمام التجارة الرقمية، وأن مواءمة هذه الأُطُر مع مبادرات مثل بروتوكول التجارة الرقمية لمنطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA) يُحدث نقلة نوعية.
وأضاف سيبيرا: “إن اللوائح المُجزَّأة تَحُدّ من قدرتنا على التوسع. ومع إطار عمل منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، تُتاح لنا فرصة إنشاء تجارة عبر الحدود بسلاسة وضمان تدفق البيانات بحرية وأمان. ويجب أن تُستكمل التشريعات بحالات استخدام عملية لإثبات قيمة تبادل البيانات بين القطاعات”. وأضاف: “إن هناك الكثير من الابتكارات التي يُمكننا إطلاق العنان لها باستخدام البيانات. لكن هناك حاجة إلى تحقيق توازن بين التشريعات وحالات الاستخدام والبنية التحتية. في حين أن قوانين حماية البيانات، مثل اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR)، قد أدخلت ضمانات بالغة الأهمية، إلا أنها أثارت في البداية الخوف والتردد، مما أدى إلى تقييد مشاركة البيانات. يمكننا إطلاق العنان للقيمة من خلال التجارب، وذلك بإظهار قيمة البيانات في مختلف القطاعات الحكومية. كما أن إظهار فوائد البيانات من خلال حالات الاستخدام المبكرة والتدريب يُمكن أن يُساعد في بناء الزخم والثقة، وهي مسألة لا تزال تُمثِّل تحديًا كبيرًا في مجال الرقمنة في إفريقيا. فضلاً عن ضرورة التأكيد على أهمية بناء الثقة بين المستهلكين والشركات؛ حيث يحتاج المستهلكون والشركات إلى الثقة بالمنصات التي يتعاملون معها. وخصوصية البيانات وأمنها وموثوقية أنظمة الدفع الرقمية عوامل بالغة الأهمية لبناء هذه الثقة. وبدون معالجة مشكلة نقص الثقة، لا يمكن لمنصات التجارة الرقمية أن تتوسع. واستنادًا إلى أمثلة من الصين؛ حيث أتاحت البنية التحتية الرقمية في القرى النائية للمجتمعات الصغيرة الوصول إلى ملايين العملاء في جميع أنحاء البلاد. وعليه أصبحت الثقة عنصرًا أساسيًّا في التجارة الإلكترونية والرقمنة.
في حين أحرزت العديد من الدول الإفريقية تقدمًا في التبني الرقمي، لا تزال هناك فجوات في الاتصال بالإنترنت ومراكز البيانات وأنظمة الدفع الرقمية. ومِن ثَمَّ هناك حاجة مُلِحَّة لمعالجة نقص البنية التحتية الرقمية في إفريقيا، خاصةً وأن هناك تأخرًا بالقارة الإفريقية في تحقيق التنمية مقارنةً بالمعايير العالمية. وأن بناء البنى التحتية وتعزيزها، وضمان تكلفتها المعقولة وسهولة الوصول إليها، سيكونان عاملين أساسيين لإطلاق العنان لإمكانات التجارة عبر الحدود.([5])
اجتماع نيروبي والطموحات الممكنة:
شهدت مدينة نيروبي وتحديدًا في 14 يوليو 2025م، اجتماع وزراء المالية وشركاء التنمية من منطقة القرن الإفريقي، الذين أكدوا التزامهم بتسريع التكامل الرقمي كإستراتيجية محورية لدفع النمو الاقتصادي، وتعزيز الاستقرار الإقليمي، وبناء القدرة على التكيُّف مع تغيُّر المناخ والتنمية. وجاء هذا التوجُّه المتجدد خلال الاجتماع الوزاري الخامس والعشرين لمبادرة القرن الإفريقي (HoAI).
انعقد الاجتماع تحت شعار “التعاون الاقتصادي والتنمية الشاملة”، وترأسه كلٌّ من نينا نوابوفو، نائبة رئيس التنمية الإقليمية والتكامل وتقديم الأعمال في بنك التنمية الإفريقي، وبيهي إيمان إيجه، وزير المالية الصومالي. وحضر الاجتماع ممثلون رفيعو المستوى من جيبوتي وإريتريا وإثيوبيا وكينيا والصومال وجنوب السودان والسودان، إلى جانب شركاء التنمية الرئيسيين، بما في ذلك البنك الدولي والوكالة الفرنسية للتنمية ومؤسسة “شيلتر أفريك”.
وأكَّدت “نوابوفو” في كلمتها أن التقنيات الرقمية لم تَعُد أدوات هامشية، بل “ممكنات مركزية” للاقتصادات الحديثة. وأشارت إلى أن دمج هذه التقنيات في مختلف القطاعات لا يُحسِّن الكفاءة وتقديم الخدمات فحسب، بل يُمكِّن الدول الإفريقية أيضًا من تجاوز نماذج التنمية التي أصبحت غير مستدامة بشكل متزايد. وأضافت: “تُشكِّل التقنيات الرقمية اقتصاد اليوم وصناعات الغد. ومن خلال دمج هذه التقنيات في برامجنا، يُمكننا تحسين الشمول وتجاوز نماذج التنمية القديمة”.([6])
ولقد ركزت مناقشات الاجتماع على كيفية إتاحة التكامل الرقمي فرصًا جديدة في مجالات التجارة والزراعة، وتقديم الخدمات العامة، والتكيف مع المناخ. وسلّط الوزراء الضوء على كيفية مساهمة الأنظمة الرقمية المُحسَّنة في الحدّ من الاحتكاك التجاري، وتحسين الربط عبر الحدود، وخَلْق فرص العمل، لا سيما للشباب الذين يُمثِّلون غالبية السكان في المنطقة. والاستشهاد بتجارب دول مثل الفلبين؛ حيث وفَّرت خدمات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ملايين الوظائف من خلال الاستعانة بمصادر خارجية لإدارة العمليات التجارية. وفي كينيا أحدثت منصات المدفوعات عبر الهاتف المحمول، مثل منصة M-PESA التابعة لشركةSafaricom ، ثورة في الشمول المالي، كنقاط مرجعية رئيسية.
ولقد أشار وزير المالية الصومالي، على أهمية ترجمة الإرادة السياسية إلى عمل إقليمي منسَّق، وإلى مصفوفة السياسات الرقمية HoAI، التي اعتُمِدَت عام 2023م، كأداة أساسية لتوجيه التنفيذ. وتضع المصفوفة مخططًا سياسيًّا مشتركًا يهدف إلى إزالة العوائق التي تعترض التحول الرقمي، بما في ذلك عدم التوافق التنظيمي، وفجوات البنية التحتية، ومحدودية المهارات الرقمية.
مع التأكيد على أن المدفوعات عبر الحدود سيكون له تأثير مباشر على المواطنين خاصة في الأوقات الصعبة، مما يسمح لأفراد العائلة والأصدقاء بتحويل الأموال. وسيؤدي ذلك إلى إزالة وسيط التحويلات المالية، وخفض تكلفة التحويل وزيادة حجم المعاملات الواردة إلى البلاد. كما سيُحفّز المعاملات التجارية عبر الحدود.
ومع اختتام اجتماع نيروبي، اتفق الوزراء والشركاء على أن القيادة السياسية المستدامة، ومتابعة السياسات، وآليات التمويل الشاملة ستكون آليات أساسية لتحقيق رؤية القرن الإفريقي المتكامل رقميًّا والمرن. وكان الإجماع واضحًا؛ حيث نص على أنه يجب على المنطقة الانتقال من الطموح إلى التنفيذ، بإصرار وتنسيق.
متطلبات تسهيل التجارة الرقمية:
يتطلب تسهيل التجارة الإلكترونية الرقمية والتجارة بين المناطق حلولاً رقمية عند نقاط الحدود، وتوافر أنظمة اللوجستيات بين رواد الأعمال والتجار والمزارعين أينما كانوا. وبينما يتطلب هذا أكثر بكثير من مجرد بنية تحتية رقمية، بل يتطلب أيضًا مواءمة اللوائح، فإن الخدمات الرقمية ستُوفّر وسائل حديثة لتسهيل التجارة بين المناطق، بما في ذلك السلع الزراعية التي ستكون حاسمة لضمان الأمن الغذائي لمنطقة القرن الإفريقي.
سيحقق تطوير الاقتصاد الرقمي داخل الحدود الوطنية الكثير. وسيكون إطلاق العنان الحقيقي للفرص على المستوى الإقليمي؛ حيث يُوفّر الاقتصاد الرقمي أنواعًا جديدة من الوظائف الافتراضية في مراكز الاتصال، وهندسة البرمجيات، والمنتجات الرقمية، والإعلام والترفيه، وغيرها. وسيؤثر مدى نُضْج الاقتصاد الرقمي على اتساع وأنواع فرص العمل المتاحة للشباب في منطقة اتحاد المزارعين.
بالإضافة إلى أن التجارة العالمية تتم بشكل رئيسي عبر الإنترنت، وتزيد الرقمنة من الإنتاجية في قطاعي الزراعة والتصنيع، ومع ظهور إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي، سيعتمد النمو الاقتصادي بشكل متزايد على الحلول الرقمية. ولقد أظهرت جائحة كوفيد-19 أهمية الإنترنت لاستمرارية الأعمال والتعليم. وسيكون تزويد الطلاب والمزارعين وروّاد الأعمال بالأدوات الرقمية مُحرّكًا للنمو.([7])
وفي هذا السياق، دعا باراك ماكوكا، وزير الخزانة الوطنية الكيني، إلى شراكات إقليمية بين القطاعين العام والخاص، وشدَّد على أهمية التمويل المختلط في الحدّ من المخاطر التي يواجهها مستثمرو القطاع الخاص. وأشار إلى أن التوسع الرقمي الهادف في المناطق الريفية والمحرومة سيتطلب رأس مال وتنسيقًا عبر الحدود. ومِن ثَمَّ تمتد الآثار الأوسع نطاقًا للاجتماع الوزاري إلى ما هو أبعد من منطقة القرن الإفريقي. فمع توقع نمو الاقتصاد الرقمي في إفريقيا بسرعة في العقد المقبل، فإن نجاح المنطقة -أو فشلها- في بناء أنظمة رقمية شاملة ومتكاملة يمكن أن يكون بمثابة مؤشر للقارة. ويجادل الخبراء بأن الاتصال الرقمي ليس مجرد قضية تكنولوجية، بل هو قضية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالاستدامة والمساواة والمرونة.
كما يتطلب تمويل التحول الرقمي في إفريقيا عامة ومنطقة القرن الإفريقي خاصة، نماذج جديدة تجمع بين استثمارات القطاعين الخاص والعام. يجب على الحكومات والهيئات الدولية التعاون لتمويل تطوير البنية التحتية للتجارة الرقمية، مع تعزيز نماذج أعمال مستدامة تُشجِّع الاستثمار طويل الأجل في هذا القطاع”. من خلال الاستفادة من الشراكات وآليات التمويل المبتكَرة، يُمكن لإفريقيا بناء اقتصاد رقمي مزدهر يدعم طموحاتها التجارية.
ولقد أكّدت مؤسسة “نساء في بلوكتشين”، وهي منظمة دولية جامعة مُصمَّمة لتمكين المرأة من خلال تقنيات بلوكتشين، على أهمية تمكين المرأة في التقنيات اللامركزية. وقالت “أوميونو” وهي مسؤولة في المؤسسة: “بالنسبة للنساء، الابتكار الرقمي يتجاوز مجرد الوصول. إنه يتعلق بالقدرة على اتخاذ القرار. نحن نُثقِّف النساء لبناء حلولهن، سواء كانت أسواقًا لامركزية أو ابتكارات في مجال التكنولوجيا الزراعية، حتى يتمكنّ من المشاركة الكاملة في هذا النظام البيئي، كأداة تربط النساء الريفيات بالأسواق العالمية دون وسطاء”.
وأضافت: “التكنولوجيا اللامركزية لا تقتصر على العملات المشفّرة فحسب، بل تشمل أيضًا بناء الحلول، سواء في المنظمات اللامركزية المستقلة أو في قطاعات مثل الزراعة؛ حيث يُمكن للنساء إنشاء أسواق لامركزية أو أدوات لإدارة المزارع”. وذكرت “أوميونو” أنه بإمكان النساء بناء أسواق لامركزية لعرض منتجاتهن في التجارة العالمية دون وسطاء، مما يفتح آفاقًا جديدة للدخل والنمو المستدامين. وأضافت هدفنا هو أن نُشْعِر النساء بالراحة والثقة في قدرتهن على الابتكار ضمن بيئة لامركزية، تتجاوز مجرد التمويل أو التجارة الإلكترونية.”
ختامًا:
في قارة تعاني من صدمات مناخية، وانعدام الأمن الغذائي، وتفتُّت اقتصادي، وفي منطقة مثل القرن الإفريقي الذي يعاني فيه المُواطِن من عدم الاستقرار الاقتصادي والتهميش وانخفاض مستوى المعيشة؛ يمكن للأدوات الرقمية أن تُقدِّم حلولًا قابلة للتطوير.
بدءًا من أنظمة الإنذار المبكر بالفيضانات والجفاف ووصولًا إلى الأسواق الزراعية الرقمية وأنظمة الطاقة الذكية، كما يمكن للتكنولوجيا أن تُسرِّع من التكيُّف والفرص.
ومع ذلك، يتطلب هذا التحوُّل أكثر من مجرد بنية تحتية؛ تدعو إلى الاستثمار في رأس المال البشري، ونظم الابتكار المحلية، وتماسك السياسات، للاستفادة من التجارة المحلية، والحاجة إلى بنية تحتية مُبتكَرة، من خوادم الإنترنت (بلغات محلية مشتركة) إلى أبراج الهواتف المحمولة والخدمات السحابية. وكذلك سهولة الوصول إلى خدمات الإنترنت وبلغة مفهومة في المناطق النائية والمُهمَّشة، والقدرة على تحمُّل التكاليف، والموثوقية.
هذه العناصر ستُحدِّد ملامح عصر التنمية القادم بإفريقيا والقرن الإفريقي، وأخيرًا يظل عدم الاستقرار الأمني والسياسي في منطقة القرن الإفريقي والتي تُعدّ من أكثر الأقاليم هشاشة على الصعيد الأمني في العالم، تحديًا كبيرًا أمام أيّ محاولة لتحقيق الازدهار الاقتصادي لمواطني الإقليم.