منذ توقُّف الحرب الباردة، اكتسب تقديم المساعدات الأمنية إلى إفريقيا أهميةً كبيرةً، بالنظر إلى أن القارة برزت باعتبارها المنطقة الأكثر اضطرابًا على مستوى العالم.
تأتي هذه الدراسة لتُحدِّد إطارًا تحليليًّا يهدف إلى الفحص الشامل للعوامل الأساسية والآثار المرتبطة بالمساعدات الأمنية الموجهة نحو إفريقيا. وعلى الرغم من أن الدراسات السابقة قد أهملت في الغالب جانب المصالح العامة للمساعدات الأمنية، فإننا نؤكد على أهمية هذا البُعْد في فَهْم المساعدات الأمنية التي تُقدّمها القوى الكبرى لإفريقيا، لا سيما في إطار التنافس الجيوسياسي.
ومن خلال تحليل شامل لمبادرات المساعدات الأمنية التي اتخذتها القوى الكبرى داخل إفريقيا، يؤكد هذا البحث أن جهود المساعدات السابقة كانت مُصمَّمة في المقام الأول لإبراز واجهة الشرعية مع حَجْب التطلعات الجيوسياسية الحقيقية من خلال التركيز على خصائص المصالح العامة.
وباعتبارها منطقة متلقّية نموذجية داخل إفريقيا، تُجسِّد منطقة الساحل كيف أدَّت المنافسات الجيوسياسية بين القوى الكبرى، التي تجلَّت من خلال المساعدات الأمنية، إلى معضلات أمنية عميقة وتحديات إضافية. وبالتالي، توجد ضرورة مُلِحَّة لتعزيز التركيز على المساعدات الأمنية وتنميتها كمصلحة عامة من أجل منع بدء حرب باردة جديدة.
مقدمة:
في السنوات الأخيرة، شاركت مجموعة متزايدة من الجهات الفاعلة في تقديم المساعدات الأمنية للقارة الإفريقية؛ فهناك مشاركة واسعة من القوى الكبرى مثل “الولايات المتحدة”، و”فرنسا”، و”المملكة المتحدة”، و”روسيا”، و”الصين”، إلى جانب دول ناشئة أخرى؛ مثل “الهند”، و”البرازيل”، و”تركيا”، ودول الخليج.
وقد سهَّلت “فرنسا” و”بريطانيا” و”الولايات المتحدة” مبادرات مكافحة الإرهاب والتمرد داخل إفريقيا من خلال التعليم والتدريب العسكري، وإصلاح القطاع الأمني، وتعزيز قدرات حفظ السلام، وصفقات الأسلحة. في حين استفادت “روسيا” بشكل متزايد من “شركة فاجنر العسكرية الخاصة” (PMC)، التي يشار إليها الآن باسم “فيلق إفريقيا” Africa Corps، لمزيد من الانخراط في إفريقيا. وأرسلت “الصين” أكثر من 2000 جندي من قوات حفظ السلام إلى مختلف الدول الإفريقية، بما في ذلك “جمهورية الكونغو الديمقراطية” و”جمهورية إفريقيا الوسطى” و”مالي” و”السودان” و”جنوب السودان” كجزء من بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. علاوة على ذلك، تشارك “تركيا” والعديد من دول الخليج، ولا سيما “الإمارات العربية المتحدة” و”قطر”، بنشاط في ديناميكيات الأمن الإقليمي في القرن الإفريقي.
وعلى جانب آخر، تضطلع الكيانات الدولية، بما في ذلك “الأمم المتحدة” و”الاتحاد الأوروبي”، بدور محوري متزايد في تقديم المساعدات الأمنية للقارة الإفريقية؛ على سبيل المثال، قدَّمت “الأمم المتحدة” دعمًا أمنيًّا كبيرًا، يشمل حماية المدنيين، في نطاق بعثاتها لحفظ السلام داخل إفريقيا. وتأتي مساهمة “الاتحاد الأوروبي” في الأمن الإفريقي في المقام الأول من خلال تخصيص قدر كبير من الموارد المالية.
ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه الجهود، تستمر القوى التقليدية مثل “الولايات المتحدة” و”فرنسا” و”روسيا” في ممارسة تأثير مهيمن على مجال المساعدات الأمنية لإفريقيا. لذا يجب تحليل خصائص المساعدات الأمنية والتدقيق في الدوافع الكامنة وراء المجموعة المتنامية من القوى العالمية الكبرى المنخرطة في تقديم المساعدات الأمنية لإفريقيا. وسعيًا لتحقيق هذا الهدف، يقترح هذا البحث إطارًا تحليليًّا شاملًا لفهم المساعدات الأمنية والتحقيق في الآثار المحتملة التي قد تُولّدها هذه المساعدات، بما في ذلك المخاوف المتعلقة بالتزاحم على تقديم هذه المساعدات وظهور حرب باردة جديدة.
وتُعدّ منطقة الساحل من أخطر المناطق في إفريقيا، فهي “بؤرة” الإرهاب عالميًّا. وتتفاوت درجات هشاشة دول هذه المنطقة؛ نظرًا لافتقارها إلى حوكمة فعَّالة على أراضيها الشاسعة، ما يجعلها مصدرًا رئيسيًّا للمساعدات الأمنية الدولية. لذا، تُعدّ منطقة الساحل مُهيَّأة تمامًا لتكون بمثابة دراسة حالة لدوافع وتأثير المساعدات الأمنية في إفريقيا. ويجادل البعض بأن المساعدات الأمنية التي تُقدّمها القوى الكبرى لإفريقيا هي مزيج من المصالح العامة والاعتبارات الجيوسياسية. وغالبًا ما تُخفي المساعدات الأمنية التي تُقدّمها القوى الكبرى لإفريقيا أغراضها الجيوسياسية الفعلية تحت ستار المصالح العامة.
ويُسلّط الإطار التحليلي هنا النقاش الأوسع حول إمكانية أن تُشعل المنافسة الجيوسياسية حربًا باردة جديدة؛ نظرًا لأن التنافس الجيوسياسي قد يكون دافعًا رئيسيًّا للمساعدات الأمنية في إفريقيا؛ حيث يقدّم رؤًى مهمة حول سلوك القوى الكبرى في الصراع الروسي الأوكراني الحالي، والحروب التجارية، والتنافس التكنولوجي.